بسم الله الرحمن الرحيم
فإن الحق لا يعرف بالرجال، إنما الرجال هم الذين يعرفون بالحق.
إن التعصب البغيض الأعمى هو الذي مزق الشمل، وشتت الصف، وبذر بذور الخلاف على مدار تاريخ هذه الأمة الطويل، ومازالت صحوتنا ترتجف وتتعثر خطاها بين الحين والآخر بسبب هذا التعصب الأعمى إما لحركة من الحركات، أو لجماعة من الجماعات، أو لشيخ من الشيوخ، أو لإمام من الأئمة، وهم الذين أعلنوا جميعاً على لسان وقلب إمام واحد: (إذا صح الحديث فهو مذهبي)
إن الحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ومن أروع ما قال الإمام الشاطبي في كتابه القيم المبدع (الاعتصام): ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل. ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطيب الله ثراه التي ينبغي أن يكتب بأحرف من نور قوله: (وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم.
(ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً) أي: إماماً أو شيخاً أو عالماً أو داعية. (يدعو إلى طريقته غير النبي صلى الله عليه وسلم): ليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع.
يقول شيخ الإسلام: بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه ويفرقون به بين الأمة). وفي موضع آخر من المجلد الثاني والعشرين من مجموع فتاويه المبارك يقول: (ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين) كالرافضي الذي يتعصب لـعلي رضي الله عنه. وهذه طرق أهل البدع والأهواء، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لـأبي حنيفة أو لـمالك أو للشافعي أو لـأحمد رضوان الله عليهم جميعاً. فالتعصب البغيض الأعمى - إخوة الإيمان والإسلام - يصم الآذان عن سماع الحق ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كوضوح الشمس في رابعة النهار، ويبذر بذور الخلاف والشقاق والبغضاء والنزاع بين أبناء الأمة.
اعرف الحق تعرف أهله، حقاً إنها كلمة عظيمة النفع، جليلة القدر أثرت عن علي رضي الله عنه، وتلقاه عنه الأئمة والعلماء بالقبول. انظر فيض القدير 1/17، والإحياء 1/53، وصيد الخاطر 36، وتلبيس إبليس 77- منتقاه، والجامع لأحكام القرءان 1/380، وأقاويل الثقات 222.
إلا أن كثيرا من الناس فهموا منها خلاف المقصود بها حيث ظنوا أن المرء يصل إلى أحكام الدين والشرع ويعرف ذلك بنفسه -وهو ليس أهلا لذلك- دون الاستعانة بالعلماء والاستضاءة بفهمهم، مع أن الله تعالى أحالنا عليهم في قوله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فجعلهم سبحانه وسائط لمعرفة الحق وأدلاء عليه.
قال الشاطبي رحمه الله: "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه" الإعتصام 548.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "..فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم" الفتاوى 20/224.
وانظر" إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد" للصنعاني رحمه الله 105 وكتاب "الروح" لابن القيم 357.
ومن ثم قد ظهر بطلان ما فهم من هذه الكلمة، والناظر في كلام العلماء يجدهم يستشهدون بها في معرض ذمهم للتعصب والتحذير منه حيث إذا لاح للإنسان الحق فلا يجوز الالتفات بعد ذلك إلى غيره بدعوى صدوره من إمام كبير معظم في النفوس!.
قال الغزالي رحمه الله: "فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكا طريق الحق وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل الصحابة وعلو منصبهم" الاحياء 1/29.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة!.
واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر لما قال وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه لحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟
فقال له: يا حارث! إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله" اهـ تلبيس إبليس منتقاه 77 وانظر أقاويل الثقات 228, وصيد الخاطر36-37.
ولذلك يقال: من الأخطاء التي يراها المرء في حياة كثير منا في هذا المجال أن ترى اختيارنا للأقوال ليس مبنيا على الاستدلال، وإنما بمجرد أن القائل بهذا القول إمام كبير! أو لأن القائل بهذا القول أكثر علما ممن قال بسواه! أو هو قول الأكثرين! أو لأن المقبل عليه أكثر! أو لأنه المشهور! أو نحو ذلك مما يدل على أن السالك لهذا الدرب حاله كحال العوام الذين يعتبرون الصناعة بالصانع كما قال المناوي رحمه الله: "ودأبهم( أي العوام) أن يعتبروا الصناعة بالصانع خلاف قول علي رضي الله عنه الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله" فيض القدير1/17.
فالحق -إذن- لا يوزن بالرجال وإنما يوزن الرجال بالحق بل كل قول يُحْتَجُّ له خلا قول النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يحتج به.
فعض على هذا الأصل بالنواجذ واحذر أن يلتبس عليك الأمر.
قال القرطبي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}البقرة: " قوله تعالى (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اللَّبس: الخلط. لبست عليه الأمر ألبسه إذا مزجت بَيِّنه بمشكله وحقه بباطله، قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ}الأنعام، وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح، ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله. وقالت الخنساء:
ترى الجليس يقول الحق تحسبه.... رشدا وهيهات فانظر ما به التبسا
صـدق مـقالـتـه واحـذر عـداوته..... والبس عليه أمورا مثل ما لبسا"
الجامع لأحكام القرءان1/380.
قال الناظم:
فالحق لا يعرف بالرجال.... بل عرفوا بالحق في الأقوال
"مفتاح باب الجنة في نصرة السنة و الأئمة " لمحمد عبد الله المختار 10.